إعادة الاعتبار للتربة: لماذا يُعد الدليل الإقليمي لمتاحف التربة ضرورة في هذا التوقيت؟
تُعامل التربة غالبًا كمكوّن صامت تحت أقدامنا، مغفَل في النقاشات العامة، رغم كونها عنصرًا جوهريًا في جميع مظاهر الحياة على كوكب الأرض. فهي تشكّل الركيزة الأساسية التي تقوم عليها النظم الغذائية، والتنوع البيولوجي، وإدارة المياه، وتعزيز المرونة في مواجهة تغيّر المناخ. وفي أكثر مناطق العالم هشاشة، باتت الحاجة إلى حماية التربة وفهمها أمرًا بالغ الأهمية لم يعد يحتمل التأجيل.
وفي 21 مايو 2025، وقّع المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) وصندوق أبوظبي للتنمية اتفاقية استراتيجية لتطوير أول دليل إقليمي لمتاحف التربة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وجرى توقيع الاتفاقية على هامش فعاليات الدورة الرابعة من "اصنع في الإمارات"، في تأكيد على مكانة دولة الإمارات كمركز عالمي للابتكار والاستدامة والسياسات العلمية المبنية على الأدلة. ويجسّد هذا المشروع، الذي انطلق من الإمارات ويتّجه بخطى واثقة نحو المنطقة والعالم، رؤيةً وطنية عابرة للحدود تهدف إلى تعزيز المعرفة البيئية والتوعية المجتمعية بأهمية التربة. وتعكس هذه الشراكة رؤية مشتركة لإعادة تصور العلاقة بين المجتمعات والمدارس والمؤسسات التعليمية مع البيئة، من خلال وضع التربة في صميم العمل المناخي، والأمن الغذائي، وحماية التراث الطبيعي والثقافي.
من متحف إلى نموذج
ينطلق هذا الدليل من تجربة متحف الإمارات للتربة، الذي أسّسه المركز الدولي للزراعة الملحية (إكبا) عام 2016 بدعم من صندوق أبوظبي للتنمية. وقد رسّخ المتحف مكانته كمرفق فريد من نوعه في منطقة الخليج، إذ يقدّم منظورًا تفاعليًا وعلميًا لعالم التربة المتنوع والحيوي. ومنذ افتتاحه، استقبل المتحف أكثر من 15,000 زائر من طلاب، ومزارعين، وباحثين، وصنّاع سياسات من مختلف أنحاء العالم، من خلال تجارب تعليمية تطبيقية تُبرز الدور المحوري للتربة في الزراعة، والنُظم البيئية، والحياة اليومية.
واليوم، يعمل إكبا على تحويل هذه التجربة الرائدة إلى نموذج قابل للتوسّع والتكيّف، يمكن اعتماده من قِبل دول ومؤسسات أخرى. وسيقدّم الدليل المرتقب إرشادات عملية تستند إلى المعرفة العلمية، لمساعدة الحكومات، والجامعات، والمجتمعات المحلية على تصميم وإطلاق متاحف تربة خاصة بها – كمراكز تعليمية حيوية تربط الإنسان بالأرض، والعِلم، والاستدامة.
لحظة مفصلية في مسيرة الوعي بالتربة
لم تعد متاحف التربة تُصنَّف كمجرّد مساحات للعرض، بل أصبحت بيئات تعليمية تفاعلية، وحاضنات لصياغة السياسات، ومنصات للتفاعل المجتمعي البنّاء. فهي تجسر الفجوة بين البحث العلمي والمعرفة العامة، وتُبسّط المفاهيم المعقدة في علم التربة بلغة شاملة وسهلة الوصول، تسهم في بناء فهم أعمق للتربة كعنصر حيّ ومحوري في استدامة الحياة.
ويُشكّل الدليل الإرشادي لحظة مفصلية في مسار ترسيخ التوعية المؤسسية بالتربة في المنطقة. إذ يقدّم إطارًا مرنًا وشاملًا لتصميم وتنفيذ واستدامة متاحف تأخذ في الاعتبار تنوّع البيئات الطبيعية، والخصوصية الثقافية، والاحتياجات التعليمية للمجتمعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
من التوعية إلى التطبيق
لا يُعد هذا الدليل مجرد مرجع تقني، بل يمثل أداة تطبيقية تجسّد التزامًا مشتركًا بين إكبا وصندوق أبوظبي للتنمية لتحويل الوعي بالتربة إلى ممارسات ملموسة ومستدامة على أرض الواقع. كما يشكّل الدليل نقطة انطلاق لبرنامج إقليمي للتدريب وبناء القدرات، يهدف إلى تزويد المعلمين وأصحاب المصلحة بالأدوات اللازمة لتعزيز الإدارة المستدامة للأراضي، وتكريس الثقافة البيئية، وتطوير ممارسات فعالة للحفاظ على التربة.
ومن خلال دمج مفاهيم التعليم البيئي في المؤسسات المجتمعية، يسعى إكبا إلى تمكين جيل جديد يدرك أن التربة ليست موردًا طبيعيًا فحسب، بل نظامًا حيًا يشكّل ركيزة أساسية للأمن الغذائي، والمرونة المناخية، والتنمية المستدامة.
التزام متجذّر وطويل الأمد
لطالما كان إكبا في طليعة المؤسسات البحثية المعنية بتطوير علوم التربة، لا سيّما في مجالات إدارة التربة المتأثرة بالملوحة، وتقييم صحتها، وتطبيق الممارسات الزراعية المستدامة في البيئات الجافة والمالحة. وقد أسهمت جهوده المتواصلة في تطوير حلول ذكية مناخيًا، وتعزيز الفهم العلمي لدور التربة كمكوّن أساسي في بناء نظم غذائية مرنة ومستدامة.
ويأتي هذا الدليل كامتداد طبيعي لهذا الإرث العلمي، حيث يُترجم المعرفة البحثية إلى تجارب تعليمية قابلة للتطبيق. كما يُجسّد التزام إكبا طويل الأمد في تعزيز الوعي المجتمعي، وتمكين الأفراد، وتشجيع الإدارة المسؤولة والمستدامة لهذا المورد الحيوي.
شراكة تستند إلى هدف مشترك
في جوهرها، يعكس هذا الدليل قناعة مشتركة بين إكبا وصندوق أبوظبي للتنمية بأن الاستدامة الحقيقية تبدأ بالمعرفة — والمعرفة لا تكتمل إلا بمشاركتها. ومن خلال إيصال العلم إلى المدارس والمجتمعات والمؤسسات العامة، تسعى هذه المبادرة إلى جعل الوعي بالتربة مفهومًا، وملائمًا، وقابلًا للتطبيق.
نحو حركة معرفية لا مجرد دليل
الدليل الإقليمي لمتاحف التربة ليس مجرد وثيقة تخطيط، بل هو الأساس لحركة تعليمية تهدف إلى إعادة ربط الإنسان بالأرض التي يقف عليها. فهو يزوّد المؤسسات بالوسائل اللازمة لسرد "قصص التربة"، وتعزيز الشعور بالمسؤولية البيئية، والاستثمار في صحة الأراضي على المدى البعيد. إن إعادة علاقتنا المعرفية بالتربة تعني تأسيس مستقبل يقوم على العناية، والعِلم، والاستدامة. والوقت الآن مناسب لإطلاق هذه المساحات التعليمية والاستصلاحية — قبل أن نفقد المزيد من الأراضي الخصبة.
من الإمارات إلى المنطقة والعالم، تمثل هذه المبادرة خطوة ملموسة نحو إعادة الاعتبار للتربة، واستعادة التوازن بين الإنسان وكوكب الأرض.